إن الدين ليس هو مجرد معلومات، ولا مجرد امتلاء من المعرفة الدينية. فالمعرفة وحدها لا تكفي. فماذا يستفيد الإنسان لو كان يعرف كل المعلومات عن الفضيلة، دون أن يسلك فيها؟! إننا نقرأ كثيراً، ونستمع إلى الكثير، ونهتم بأن نحشوا أذهاننا بالمعلومات. فهل تغيرت أحوالنا بمجرد المعلومات؟ أم ينبغي أن تتحول المعلومات إلى عمل؟! إن كثيرين من أصحاب المعرفة لهم ضعفات ثابتة، تكاد تصل إلى مستوى الطباع، وتستمر معهم على مدى سنوات طويلة. وكذلك لأنهم لم يُدرِّبوا أنفسهم على ترك تلك الضعفات.
+ ومن هنا كانت أهمية التداريب الروحية: فبها يدخل الإنسان فى مواجهة عملية مع نفسه. إمَّا ترك خطاياه، أو اكتساب فضائل تنقصه، أو النمو روحياً. وهكذا يحول بها المعرفة الروحية إلى حياة. وكذلك يحول الاشتياقات الروحية إلى حياة عملية. وفى التدريب العملى يعرف حقيقة نفسه، ومن أين يأتيه الخطأ، ما هى أسبابه ومصادره ويدخل بالتدريب فى طريق المقاومة. ويعرف العقبات التى تصادفه، وأسلوب الانتصار عليها.
+ والتدرايب الروحية تدل على أن صاحبها سهران على خلاص نفسه: يكتشف أخطائه ونقائصه، ويتدرب على تفاديها.
لذلك أنصحك أيها القارئ العزيز أن تكتشف أخطاءك، أو الأخطاء التى يكشفها غيرك لك. لأنه بدون اكتشاف أخطائك، لا يمكنك أن تُدرِّب نفسك على تركها. لأنه لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فلا تتضايق إذن مِمَّن يظهر لك عيباً فيك. بل استفد من هذا الكشف لكي تتدرَّب على التخلُّص من ذلك العيب. بل أنت نفسك حاول أن تفحص ذاتك جيداً فى ضوء وصايا اللَّه.
+ واحذر من تبريرك لنفسك وإلتماس الأعذار في أخطائك. فالذى يُبرِّر نفسه، يبقى دائماً بحيث هو. لا يصلح من ذاته شيئاً، لأن ذاته جميلة فى عينيه بلا عيب!! أمَّا الذى يُحاسب نفسه بدقة ولا يعذر نفسه مطلقاً مهما كانت الظروف فهذا هو الشخص الذى يمكنه أن يعرف عيوبه، ويمكنه أن يُدرِّب نفسه على تركها.
إن كنت تستحي من أن يكشف لك الغير خطأ فيك، فلاشك أن تستحى من نفسك من نفس الخطأ! فاجلس إذن إلى ذاتك وكُن صريحاً مع نفسك إلى أبعد الحدود. وحاول أن تطرق نقط الضعف التى فيك، ونقط النقص التى تكشفها لك القراءة الروحية، أو تدركها من سماعك لبعض العظات التى تشعر أنها تمس حياتك.
+ فلو أنك دربت نفسك كل أسبوع، أو حتى كل شهر على مقاومة نقطة ضعف واحدة، لأمكنك فى عام واحد أن تتخلص من 12 نقطة ضعف. وثق أن الخطايا يرتبط بعضها بالبعض الآخر. بحيث أنَّ تخلّصك من خطيئة معينة، قد يُخلِّصك من خطايا أخرى عديدة مرتبطة بها.
كما أن تدربك على فضيلة معينة، وبخاصة لو كانت من الفضائل الأمهات، فلابد أن ذلك سيقودك إلى فضائل أخرى ما كنت قد وضعتها فى تدريبك. الفضائل أيضاً مرتبطة ببعضها البعض، كحلقات فى سلسلة واحدة.
+ إن الإنسان الروحى الذى يدرب نفسه على حياة الفضيلة، فأنه فى كل تدريب يكتسب دون أن يقصد فضيلة ضبط النفس. وفي ذات الوقت يكتسب معونة إلهية تساعده على ترك الخطية. لأنه من الواضح أنك إن بدأت فى تدريب نفسك فى حياة الفضيلة، لابد أن نعمة اللَّه ستبدأ معك أيضاً. فاللَّه ـ جلّت قدرته ـ لا يتركك وحدك فى تدريبك، بل سيعمل معك. لأنك بالتدريب تظهر أنك جاد ومُلتزم بالسلوك فى الحياة مع اللَّه. وهذا الشعور ستتجاوب معه المعونة الإلهية. وإن كان الشيطان يحاربك لتكسر التدريب، فإن النعمة سوف تسندك لتنجح فيه. المهم أنك لا تتراجع ولا تتراخى ولا تكسل فى تدريباتك. بل كن حازماً مع نفسك.
+ وإن دربت نفسك على فضيلة، فاعلم أن الثبات فى الفضائل أهم من بدأ اقتنائها. لأنه ما أسهل أن يسير الإنسان فى فضيلة ما يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أسبوع. ولكن المهم أن يستمر حتى تصبح هذه الفضيلة عادة فيه، أو تتحوَّل إلى طبع. وهكذا تحتاج التدرايب إلى مدى زمنى طويل تكاد ترسخ فى أعماق النفس. لأن كل تدبير لا يثبت فيه الإنسان زمناً، يكون بلا ثمر. فالاستمرارية هى المحك العملى لمعرفة عمق الفضيلة فيك. وأيضاً تعطى فرصة لاختبار المعوقات التى تقف ضد التدريب وطريقة الانتصار عليها. لهذا فإن القفز السريع من تدريب إلى آخر، لا يفيد روحياً. ذلك لأن كثيرين يريدون أن يصلوا إلى كل شيء فى أقل فترة من الوقت. فتكون النتيجة أنهم لا يصلون إلى أى شيء!! أو أنهم يضعون أمامهم تداريب عديدة فى نفس الوقت، بحيث ينسون بعضهم، أو لا يستطيعون التركيز عليها جميعاً. أمَّا أنت فاُسلك فى تداريبك بحكمة، شيئاً فشيئاً، لكى تصل. وهنا أضع أمامك بعض الملاحظات:
+ ليكن تدريبك مُحدّداً وواضحاً. فلا تقل مثلاً: أدرِّب نفسي على المحبة. وكلمة المحبة تشمل فضائل عددية جداً. بل يمكنك الإكتفاء بعنصر واحد تُركِّز عليه، ثم تتابع بعد ذلك. ولا تقُل لنفسك: أُريد أن أتدرَّب على حياة الاتضاع والوداعة. بينما تكون هذه الكلمات غير واضحة في تفاصيلها أمامك. وهكذا لا تفعل شيئاً. إنما قُل مثلاً: أُريد في حياة الاتضاع أن أُدرِّب نفسي على أمر واحد فقط، وهو إنني لا أمدح ذاتي. فإن أتقنت هذا، قُل لنفسك: أُدرِّب ذاتي على أني لا أسعى وراء مديح الناس. فإن أتقنت هذا قُل أُدرِّب نفسي على شيء آخر: وهو إن مدحني أحد أتذكَّر في الحال خطاياي وتقصيري، وأُبكِّت ذاتي من الداخل. فإن لم تستطع شيئاً من كل هذا أُدخل في تدريب آخر لأنَّ التدريب ينبغي أن يكون في حدود إمكانياتك، بحيث يمكنك تنفيذه عملياً.
+ هناك شخص يُريد أن يُدرِّب نفسه على ترك أخطاء الكلام. فيقول: أُريد أن أُدرِّب نفسي على الصمت. ولا يستطيع ذلك. وقد يصمت فترة يمكن أن يتكلِّم بأخطاء كثيرة! كمال قال المثل: " سكت دهراً، ونطق كُفراً ". إنما يستطيع هذا الإنسان أن يُدرِّب نفسه على بعض نقاط في أخطاء الكلام فمثلاً يُدرِّب نفسه على عدم الإطالة في الحديث. كما يحتاج إلى كلمة، لا يقول فيها جملة. وما يحتاج إلى جملة، لا يلقي فيه محاضرة. وإن فهم محدِّثه ما يريد، لا داع لأن يزيد. ثم يُدرِّب نفسه على عدم مقاطعة غيره في الحديث. أو يُدرِّب ذاته على الصمت الهادئ. أما أن يدخل في التدريب على مقاومة كل أخطاء اللسان، فلن يصل إلى شيء مرَّة واحدة.
تعليقات
إرسال تعليق