"ولكن الآن قد قام المسيح من
الأموات وصار باكورة الراقدين" (1كو15: 20). إن أهم عمل يعمله الكاهن فى
خدمته، هو أن يقيم الموتى، يقول "لهذه العظام. هأنذا أدخل فيكم روحاً
فتحيون" (حز37: 5).
عمل
الكاهن هو أن يدخل إلى القبور ليقيم موتى الخطية. وفى ذلك قال السيد المسيح
"تأتى ساعة وهى الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون"
(يو5: 25). كما وقف السيد المسيح عند قبر لعازر وصلى قائلاً "أيها الآب أشكرك
لأنك سمعت لى.. ولما قال هذا صرخ بصوتٍ عظيمٍ لعازر هلمَّ خارجاً" (يو11:
41-44).
صوت
الكاهن هو ذلك الصوت المفرح، الذى ينادى أولئك الذين تسلط عليهم إبليس، وماتوا موت
الخطية. وصوت الكاهن هو صوت مملوء بالفرح، لأنه يحمل معنى الحياة، ويحمل قوة
القيامة "مغفورة لك خطاياك.. قم واحمل سريرك وامش" (انظر مر2: 1-12).
شفاء
الجسد أسهل بكثير من شفاء روح. نحن لا نطالب الكاهن أن يقيم الأموات بالجسد إنما
أن يقيم موتى الخطية، لأن موت الخطية أخطر كثيراً من موت الجسد. لذلك فإن رسالة
الكاهن هى كما يقول معلمنا بولس الرسول "الله الذى صالحنا لنفسه بيسوع المسيح
وأعطانا خدمة المصالحة. أى أن الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب
لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة. إذاً نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ
بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2كو5: 18-20).
تحقق
كلام السيد المسيح الذى قال "تأتى ساعة وهى الآن حين يسمع الأموات صوت ابن
الله والسامعون يحيون" (يو5: 25). فقد خرجت الكرازة بالإنجيل وانتشرت الحياة
فى ربوع العالم كله فعلاً.
خرجت
المسيحية لكى تكرز بالقداسة والطهارة والحرية من الخطية، خرجت لتكرز بالحياة
الجديدة وبقيامة السيد المسيح من الأموات. خرجت لتكرز "بالحياة الأبدية التى
كانت عند الآب وأظهرت لنا" (1يو1: 2).
يقول
الكتاب "من يغلب فلا يؤذيه الموت الثانى" (رؤ2: 11) هذا الموت الثانى هو
الموت الخطير، لأنه موت الهلاك الأبدى!!! لذلك فإن رسالة الكاهن هى إقامة الموتى،
ونشر الحياة على الأرض. فحينما يتصالح الإنسان مع الله تدب فيه الحياة مرة أخرى،
لأن حالة اليأس والظلمة والاستسلام للخطية، تبعث فى الإنسان روح الكآبة.
فرحة
النصرة
يستطيع
الكاهن أن يدعو الناس إلى التوبة، فيبعث فيهم الرجاء، وتنتعش أنفسهم، وتتشدد
أرجلهم. فتجرى أرجلهم فى طريق السلام، وتنطق أفواههم بتسابيح وتماجيد سماوية. كما نصلى
فى الهوس الرابع من تسبحة نصف الليل ونقول "تعليات الله فى حناجرهم وسيوف ذات
حدين فى أيديهم" (مز149: 6). فيخرج
التائبون كجيش مقدس وينضمون إلى صفوف المفديين، ليترنموا بتلك الترنيمة الجديدة
التى هى ترنيمة موسى والخروف.
حينما
عبر موسى مع الشعب فى البحر الأحمر، يقول الكتاب "حينئذ رنَّم موسى وبنو
إسرائيل هذه التسبحة للرب وقالوا. أرنم للرب فإنه قد تعظَّم. الفرس وراكبه طرحهما
فى البحر. الرب قوتى ونشيدى. وقد صار خلاصى.." (خر15: 1-19). ثم يقول
"فأخذت مريم النبية أخت هارون الدف بيدها. وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف
ورقص. وأجابتهم مريم. رنموا للرب فإنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما فى
البحر" (خر15: 20-21).
حينما
يغلب الإنسان فرعون العقل -الذى هو الشيطان- تنطلق حينئذ نفسه بالتسبيح والفرح،
لأنه خرج من العبودية إلى حياة الحرية، لكيما يعبد الله فى البرية، ويترنم بترانيم
البركة والخلاص. أما الإنسان المنحنى النفس والكئيب بسبب الخطية فيقول "كيف
نسبح تسبحة الرب فى أرض غريبة. إن نسيتك يا أورشليم أنسى يمينى ويلتصق لسانى
بحنكى" (مز136: 4، 5) (من صلاة النوم).. ويقول "لماذا أنت حزينة يا نفسى؟
ولماذا تزعجيننى؟" (مز42: 5) (من صلاة الساعة الثالثة بالأجبية).
وجد
السيد المسيح امرأة "منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة" (لو13: 11)، فقال
"هذه وهى ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثمانى عشرة سنة" (لو13: 16)
فقال لها السيد المسيح "يا امرأة إنك محلولة من ضعفك. ووضع عليها يديه ففى
الحال استقامت" (لو13: 12-13).
"لماذا
أنت منحنية يا نفسى؟!" لماذا تحنى للحمل كتفك؟ لماذا تخضعين للشر والخطية؟
أين قوة الخلاص وقوة التجديد التى أخذتيها فى المعمودية؟ أين قوة القيامة التى
نخرج بها لنكرز بالحياة.
رسالة
الكاهن
إن
رسالة الكاهن هى أن يكرز بالحياة، ويكرز بقوة القيامة. لأن هذا هو سر قوة المسيحية.
فرسالة الكاهن هى رسالة فرح بكل ما فيها من تعب ومشقة، وبكل ما فيها من بذل وعناء،
وبكل ما فيها من سهر وبكاء. ولكن كل إنسان يأخذ أجرته بحسب تعبه "مِن تَعَبِ
نفسِهِ يرى ويشبع" (أش53: 11).
بعض
الكهنة يطالبون الناس بتقديم القرابين والتقدمات والنذور لهم، ومن لا يعمل ذلك
تُصَّب عليه الويلات واللعنات، أو على الأقل -إذا لم يرد الكاهن أن يعلن غضبه
صراحةً- فإنه يعلنه بتعبيس الوجه أو الخصومة. فهو يبتسم لمن يعطيه المال والتقدمات
ويعبّس فى وجه من يعكف عن ذلك. فيحاول الناس إرضائه وتحاشى غضبه. أين توجد -فى وسط
هذا الجو- البذرة التى ستثمر الثمرة الحقيقية؟!.
يقول
معلمنا بولس الرسول "إذاً الموت يعمل فينا ولكن الحياة فيكم" (2كو4:
12). أى أنه بالقدر الذى نموته نحن، أنتم ستحيون. فالخدمة التى تُبذَل فيها جهود
مضنية، تكون هى الخدمة المثمرة، أما الخدمة التى تتصف بالرفاهية، فهى خدمة بلا
ثمر.
ليس
الكهنوت زياً يرتديه الكاهن، أو لقباً يتزين به، إنما الكهنوت ممارسة حقيقية
للمصالحة مع الله، والمناداة بالتوبة. الكهنوت هو خدمة المصالحة، وهذا يستلزم أن
يقدِّم الراعى تعباً وسهراً ودموعاً من أجل رعيته.
وحينما
يتعب الكاهن فى خدمة المصالحة هذه لا يعود الإنسان يئن فى شقائه وتعاسته فى الحياة
فى علاقته مع الله، ولا يقول "ليس بيننا مُصالح يضع يده على كلينا"
(أى9: 33) لأن الله صالحنا لنفسه فى المسيح.
إذا
كان الأسقف هو الراعى، فإن الكهنة يعملون معه ويساعدونه فى عمل الرعاية، ويتحمّلون
مسئولية الخدمة معه. فالكاهن يقوم برعاية النفوس والله نفسه يقول "أنا أرعى
غنمى وأربضها يقول السيد الرب. وأطلب الضال وأسترد المطرود وأجبر الكسير وأعصب
الجريح وأبيد السمين والقوى وأرعاها بعدل" (حز34: 15-16).
من
الأمور المحزنة جداً فى حياة أى كاهن أن يجعل الشعب يشعرون باستمرار أنهم مقصّرون
فى حقه، ولم يقدموا له الواجب المفروض: إِمّا من ناحية احتياجاته المادية أو من
ناحية الكرامة اللائقة به. وكأن هذا
الكاهن قد جاء ليُخدَم وليس ليَخدِم، مع أن السيد المسيح قال "إن ابن الإنسان
لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت20: 28).
الكاهن
والعطاء
أحياناً
يتحول الكاهن إلى عبء ومشكلة بالنسبة للرعية، لا يدرون كيـف يرضونه!! أمـا الكاهن
الحقيـقى فيـجد النـاس عنده الحل لكل المشاكل.
الكاهن
الحقيقى هو الذى يحمل رعيته : يحمل همومهم ويحل مشاكلهم، ويضع أمامه هذا الشعار
الخالد الذى قاله معلمنا بولس الرسول "متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط
هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع20: 35).
الكاهن
الحقيقى هو الذى يريد دائماً أن يعطى أكثر مما يأخذ. وحينما يعطى سيجد أن الله
يرسل له خيراً وبركةً مضاعفةً حتى يستطيع أن يتمكن من زيادة عطائه، "كيلاً
جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً يعطون فى أحضانكم" (لو6: 38). ولذلك كان معلمنا
بولس يقول "كفقراء ونحن نغنى كثيرين. كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ"
(2كو6: 10).
فى
أيام الكنيسة الأولى كان المؤمنون يبيعون الأملاك والمقتنيات "ويأتون بأثمان المبيعات
ويضعونها عند أرجل الرسل" (أع4: 34-35). فكانت كل ممتلكات الناس تحت أقدامهم،
لأن هذا هو مكان المادة الحقيقى -تحت الأقدام. و "لم يكن فيهم أحد
محتاجاً" (أع4: 34)، لأن كل شئ بينهم كان مشتركاً. وكل من كان محتاجاً لشئ
كان يأتى للآباء الرسل ويأخذه.
فالكنيسة
غنية، لكنها فى نفس الوقت، لا تتعلق بالمال ولا تحبه. لذلك كانت الخدمة مثمرة وكان
الناس يقومون بتقديم العطايا بفرح، لأنهم يعلمون أن الكنيسة لا تطمع فى أموالهم
وممتلكاتهم. فالكنيسة تريد الخير للكل، وتريد أن تنشر المحبة بين الجميع.
وعد
من فم الله
قال
معلمنا بطرس الرسول للسيد المسيح "ها نحن قد تركنا كل شئ وتبعناك. فماذا يكون
لنا" (مت19: 27). ترك بطرس شباك الصيد والسفينة، فقال له السيد المسيح "ليس
أحد ترك.. لأجلى ولأجل الإنجيل إلا ويأخذ مئة ضعف الآن فى هذا الزمان.. وفى الدهر
الآتى الحياة الأبدية" (مر10: 29، 30).
الترك
من أجل الله هو تجارة رابحة، لأن المئة التى يتركها تعود عليه بعشرة آلاف. لا يوجد
فى الدنيا كلها بنك أو مؤسسة تعطى هذا الربح. لكن السيد المسيح قالها كوعد منه
"ليس أحد ترك.. إلا ويأخذ مئة ضعف". ولئلا يظن أحد أن هذه المئة ضعف
سيهبها الله له فى السماء، قال السيد المسيح "يأخذ مئة ضعف الآن فى هذا
الزمان" (مر10: 30). أما فى السماء فسوف يأخذ أضعافاً كثيرة لا تدخل تحت حصر،
ولهذا أكمل قائلاً "وفى الدهر الآتى الحياة الأبدية" (مر10: 30).
لكن
السيد المسيح حينما وعد بالمئة ضعف قال "مع اضطهادات" (مر10: 30). فلابد
أن يتدخّل الشيطان ليُحزن الإنسان، لكن الله سوف يعطى المئة ضعف. فبطرس هذا الذى
ترك السفينة والشباك، كانت تُلقى آلاف من الدنانير تحت رجليه، لأن كل الحقول
والبيوت التى تم بيعها وُضِعت أثمانها تحت رجليه. لكن الآباء الرسل قالوا "إن
كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون فى
تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرّق الناس فى العطب والهلاك. لأن محبة المال
أصل لكل الشرور" (1تى6: 8-10).
لم
تكن نظرة الآباء إلى المال أنه شئ محبب،
إنما كانوا ينظرون إليه، كأنه خير وبركة، وهم وكلاء أمناء على نعمة الله الصالحة.
"فكان يوزَّع على كل أحدٍ كما يكون له احتياج" (أع4: 35).
يزرعون
بالدموع
"الذين
يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز125: 5) (من مزامير الغروب فى الأجبية)
فالكاهن الذى يزرع بالدموع لابد أن يحصد بالابتهاج، "فإن الذى يزرعه الإنسان
إياه يحصد أيضاً" (غل6: 7).. " من يزرع بالشح فبالشح أيضاً يحصد. ومن
يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد" (2كو9: 6).
الكاهن
الحقيقى هو الذى يزرع الحب، ويزرع السلام، ويزرع الوئام. الكاهن الحقيقى يزرع
السخاء، ويزرع العطاء. وبعدما يزرع، سوف يحصد كل الخير من شعبه.
المسيح
قدَّم والكنيسة ترد
زرع
السيد المسيح المحبة، حينما افتدانا بصليبه، والآن الكنيسة بدورها تقدم محبتها
للمسيح. لا توجد شخصية فى كل تاريخ
العالم، ضحى الناس من أجلها مثل السيد المسيح. فقد قدَّم الشهداء أنفسهم
بفرح للاستشهاد من أجل محبته، وقدَّم النساك حياتهم "تائهين فى برارى وجبال
ومغاير وشقوق الأرض" (عب11: 38) من أجل عظم محبتهم فى الملك المسيح.
قدم
السيد المسيح الحب كرئيس كهنة وكراعٍ صالح وكخادم للخلاص، فعاشت الأجيال تسبح
بحمده وشكره، وتحكى بفضائله، وتقدم محبتها له، وتتغنى باسمه. صار اسمه حلو ومبارك
فى أفواه قديسيه. صار أنشودة تترنم بها الأجيال، لأنه قدم الحب فاستحق أن يُحَب.
لم
يعد الله يفرض نفسه كإله وسيد، بقدر ما صار محبوباً كعريس للكنيسة، تحبه عروسه
وتبذل نفسها من أجله فى فرح. كما قيل فى التأمل عن المذبح الموجود فوق قبر الشهيدة
دميانة : إن المسيح فوق المذبح بجسده ودمه المذبوح من أجل الشهيدة دميانة، والقديسة
دميانة تحت المذبح مذبوحة من أجل حبيبها الرب يسوع المسيح. كما قال القديس يوحنا
فى سفر الرؤيا "رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل
الشهادة التى كانت عندهم" (رؤ6: 9).
ولإلهنا
المجد الدائم إلى الأبد آمين
تعليقات
إرسال تعليق