استخدم السيد المسيح كثيراً هذا اللقب فى الحديث عن نفسه لكى يؤكّد
حقيقة تجسده وتأنسه. فكما أنه هو ابن الله المولود من الآب قبل كل الدهور، هكذا
فإنه هو هو نفسه ابن الإنسان الذى ولد من العذراء مريم فى ملء الزمان، إذ اتخذ
منها ناسوتاً كاملاً بفعل الروح القدس.
فابن الله الكلمة له ميلادان: الميلاد الأول من الآب بحسب لاهوته، والميلاد
الثانى من العذراء القديسة مريم بحسب ناسوته، ولكنه هو هو نفسه وليس آخر.
لهذا قال معلمنا بولس الرسول "يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم
وإلى الأبد" (عب13: 8). أى أنه هو نفسه الذى ولد من الآب، وهو نفسه الذى جاء
إلى العالم وصنع الفداء، وهو نفسه الذى سوف يأتى ليدين الأحياء والأموات ويملك إلى
الأبد.
وقد استخدم السيد المسيح تعبير "ابن الإنسان" فى أمور تخص
طبيعته الإلهية، كما أنه استخدم تعبير "ابن الله" فى أمور تخص طبيعته
الإنسانية. وذلك لكى يؤكد أنه هو هو نفسه ابن الله وابن الإنسان فى آنٍ واحد، حينما تجسد وتأنس من أجل خلاصنا.
فمثلاً قال عن نفسه أن "ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً"
(لو6: 5). وكذلك "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء، ابن
الإنسان الذى هو فى السماء" (يو3: 13). وقال أيضاً "متى جاء ابن الإنسان
فى مجده" (مت 25: 31). وكذلك "لكى تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على
الأرض أن يغفر الخطايا" (مر2: 10). وذلك حينما قال اليهود فى أنفسهم "من
يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده" (مر2: 7).
ومن الجهة الأخرى قال "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه
الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16). وهو
فى هذه الحالة استخدم لقب "ابن الله الوحيد" عن نفسه فى أمر يخص صلبه
بحسب الجسد، لأنه بحسب لاهوته لم يكن ممكناً أن يُصلب دون أن يتجسد ويصير ابناً
للإنسان. وقد صُلب جسدياً وأسلم الروح الإنسانية فى يدى الآب، دون أن ينفصل لاهوته
لا عن جسده، ولا عن روحه الإنسانية لحظة واحدة ولا طرفة عين.
ما أجمل هذه العبارة أن "ابن الإنسان قد جاء لكى يخلّص ما قد
هلك" (مت18: 11) إن الذى جاء ليطلب ويخلّص ما قد هلك هو ابن الله الوحيد، ولكنه
كان يحلو له أن يستخدم لقب "ابن الإنسان" لكى نفهم أنه هو نفسه الإله
المتجسد كما قال معلمنا بولس الرسول "وبالاجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر
فى الجسد" (1تى3: 16). وتتغنى الكنيسة بهذه المعانى الجميلة فى تسبحة نصف
الليل عن السيد المسيح فتقول مثلاً فى التذاكيات {لم يزل إلهاً أتى وصار ابن بشر
لكنه هو الإله الحقيقى أتى وخلّصنا} (من تذاكية يوم الخميس).
أى أن ابن الله الكلمة حينما أتى وصار ابن بشر أى ابناً للإنسان، فإنه
استمر كما هو لم يتغير من جهة كونه الإله الحقيقى الواحد مع أبيه والروح القدس
والذى تجسد وتأنس من أجل خلاصنا.
كما تقول التسبحة أيضاً {أشرق جسدياً من العذراء بغير زرع بشر أتى
وخلصنا} (من ثيئوطوكية يوم الإثنين) إن الذى أشرق هو الله الكلمة ولكنه حينما
"ظهر فى الجسد" (1تى 3: 16) فأنه قد أشرق جسدياً. وفى ميلاده البتولى
العجيب قد تجسد بغير زرع بشر وبلا خطية، بل هو قدوس بلا شر ولا دنس وبغير الميل
الطبيعى نحو الخطية وضعفاتها ونقائصها، بل بكمال لا يوصف حتى أنه قال "الذى
رآنى فقد رأى الآب" (يو14: 9). وقيل عنه "الشعب السالك فى الظلمة أبصر
نوراً عظيماً" (أش9: 2) وأيضاً قيل "كان النور الحقيقى الذى ينير لكل
إنسان آتياً إلى العالم" (يو1: 9). "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور
الناس والنور يضئ فى الظلمة، والظلمة لم تدركه" (يو1: 4، 5).
إن عبارة أو لقب "ابن الإنسان" التى قيلت عن السيد المسيح
لا تنتقص من مكانته شيئاً، بالعكس ما كانت الحاجة إليها لولا أنه أراد أن يؤكد
تجسده وتأنسه. فالمعروف طبعاً أن أى إنسان هو ابن إنسان، ومن البديهى أن أى إنسان
لا يحتاج إلى مثل هذا اللقب. ولكن السيد المسيح لقب نفسه وقيل عنه إنه هو "ابن
الإنسان" مراراً كثيرة فى الإنجيل المقدس لكى ندرك معنى ظهوره فى الجسد، وأنه
ليس ظهوراً مثل ظهوراته فى العهد القديم التى اتخذ فيها شكل إنسان بل هو ظهور
مصحوب بتجسد حقيقى من نفس طبيعتنا البشرية بلا خطية.
وقد قيل عن أب الآباء يعقوب "صارعه إنسان حتى طلوع الفجر"
(تك 32: 24). وكان هذا مجرد ظهور للسيد المسيح بغير تجسد فى العهد القديم.
وهكذا ظهر أيضاً لأبينا إبراهيم مع ملاكين فى هيئة ثلاثة رجال وظهر
لمنوح أبى شمشون فى هيئة إنسان وظهر للآباء قديماً بأنواع وطرق شتى، ولكن لم تكن
هذه الظهورات تجسداً حقيقياً، بل ظهور مؤقتاً لهدف معين.
أما ميلاد السيد المسيح من العذراء القديسة مريم فإنه كان ظهوراً
وتجسداً وتأنساً حقيقياً كاملاً أى بطبيعة بشرية كاملة وباتحاد تام طبيعى مع
لاهوته. وهذا هو الاتحاد الأقنومى الذى تكلم عنه آباء الكنيسة ودافعوا عنه ويصلى
به الكاهن أثناء دورة البخور { يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد بأقنوم
واحد نسجد له ونمجده }.
تعليقات
إرسال تعليق