الفضيلة الأولى والكُبرَى هى أن نحب الله من كل القلب ومن كل الفكر. وإن أحببناه نفعل في كل حين ما يُرضيه. وبالمحبة نُطيع وصاياه، لا عن قهر ولا عن خوف وإنما عن حُب لله ولوصاياه. فالدين يا إخوتي، ليس مجرَّد حلال وحرام! أو مُجرَّد أوامر ونواهي، بقدر ما هو حُب نحو الله والناس. ومن هذا الحُب ينبع كل خير، وتصدر كل فضيلة. والشخص الذي لا يُحب الله والناس، ليس هو إنساناً مُتديناً بالحقيقة، مهما كانت له صلوات وأصوام، وقراءات وتأملات وعطاء وخدمة للآخرين. ولا نظن أن الدين هو مُجرَّد واجبات أو فروض، أو وصايا نرغم أنفسنا عليها لكي نظهر مطيعين لأوامر الله، أو لكي نكون أبراراً في أعين أنفسنا. بل نحن نحب الله كما أحبنا من قبل حتى قبل أن نُوجَد. ومن أجل هذا الحُب أوجدنا. ونحب الله لأنه يرعانا باستمرار، ويكفل كل إحتياجاتنا. ومن فرط جوده يعطينا قبل أن نطلب، ويعطينا فوق ما نطلب إن طلبنا.
+ إننا نحب الله، ونحب كل الناس داخل محبتنا له. ولا نسمح بوجود محبة في قلوبنا تتعارض مع محبة الله أو تفوق محبتنا لله. حتى محبتنا لأنفسنا لا نجعلها في المرتبة الأولى، فمحبة الله هى قبل كل شيء. ولا يجوز أن أية شهوة أو رغبة ندعها تفصلنا عن محبة الله. وكل محبة تُنافس الله في قلوبنا، تكون محبة غريبة خاطئة لا نسمح بها لأنفسنا. إن قلوبنا هى ملك لله وحده، فلا يجوز أن نعطيها لغيره. ولكننا نحب جميع الناس داخل محبتنا لله.
+ إن الذي يُحب الله، يحب أن يتكلَّم معه، وهكذا يحب الصلاة. ويرى الصلاة ـ من واقع اسمها ـ هى مُجرَّد صِلَة بالله. إنها إشتياق إلى الله، وإلى البقاء في حضرته، وهى مذاقة حلوة لأرواحنا تسمو بها في أجواء عُليا أرفع من مستوانا. ومن أجمل ألفاظ الصلاة أن يقول الشخص: أعطني يارب أن أحبك، وأيضاً علِّمني يارب كيف أحبك، درِّبني على محبتك، ودرِّجني في محبتك. اسكب محبتك في قلبي. وإنزع من قلبي كل محبة تتعارض مع محبتك، حتى يصير القلب كله لك وحدك. وأيضاً اجعل محبتك هى التي تشغلني وتملك قلبي، وهى التي تقود كل تصرفاتي. وتمنحني أن أُحب الناس جميعاً. بهذا الشعور لا تكون الصلاة واجباً أو فرضاً، بل تكون متعة للروح وللفكر. والقديسون الذين ذاقوا هذه المتعة، كانوا يحبون الكلام مع الله أكثر من الكلام مع الناس بما لا يحد.
+ إن الذين أحبوا الله، أحبوا ملكوته. وأحبوا الأبدية التي يحيون فيها معه. ولم تعد محبة العالم والمادة تشغلهم. بل أيقنوا تماماً أن كل شهوات العالم زائلة تنتهي بعد حين. أمَّا محبة الله فتبقى إلى الأبد. شهوات العالم سطحية، أمَّا محبة الله فلها عُمق، ولها قدسية، وترفع مستوى الإنسان، في حين أن شهوات العالم تهبط بمستواه ... والإنسان الروحي يقول: كلما أحبك يارب، ترفعني إليك، لأعيش السماويات. أمَّا إن أحببت هذا العالم الحاضر، فإنه يهبطني معه إلى الأرض إلى التُّراب والأرضيات.
+ ما أجمل التَّأمُّل في صفات الله، إنها تغرس محبته في قلوبنا ... الله المُحب الطيِّب الشفوق، الطويل الروح، الكثير الرحمة، الجزيل التَّحنُّن. الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا ... الله الكُلِّي القداسة، الكُلِّي الحكمة، الكُلِّي القدرة، الذي فيه كل كنوز الحكمة والعِلم.
+ إننا نحب الله الذي هو أقوى من الكل. وهو الذي يحرسنا ويسندنا. تشعر النفس المُحبة له أنها في حمايته، محاطة بقوة عجيبة، لا يقدر عليها عدو مهما بلغ من جبروت، ولا حتى الشيطان في كل حيلة وحروبه، هو لا شيء أمام قوة الله الحافظة لنا. وهكذا فإن محبة الله تطرح الخوف إلى خارج قلوبنا. فلا نخاف الدينونة، ولا نخاف الناس، ولا الخطية، ولا الشيطان.
+ إن محبتنا الحقيقية لله تجعلنا ننتصر على جميع العوائق. ولعل العائق الأول هو الذات، الـ Ego. فكثير من الناس يحبون ذواتهم أكثر من محبتهم لله!! ذاتهم هى الصنم الذي يتعبدون له، ويبحثون باستمرار عن رغبات هذه الذات وشهواتها، ورفعة الذات ومجدها، وكرامة الذات وإنتقامها لنفسها، وعظمة هذه الذات ومديح الناس لها ... وفي سبيل ذلك ما أكثر الخطايا التي يقترفونها، ويبعدون بها عن الله ومحبته. ولذلك يضع أمامنا الله ـ تبارك اسمه ـ فضيلة إنكار الذات.
+ وكثيراً أيضاً ما تقف المادة ضد محبة الله، كالمال مثلاً. فإن كنت تملك مالاً، لا تجعل هذا المال يملكك. إنفقه في محبة الله والناس، فيكون لك كنز في السماء.
+ الجسد أيضاً تقف شهواته أحياناً ضد محبة الله. لذلك فإن شهوات الجسد ضد شهوة الروح. العجيب أن غالبية الناس يهتمون براحة أجسادهم أكثر من راحة الروح.
+ كذلك أيضاً المشغوليات تعطلنا أحياناً عن محبة الله ... إذا إستطاعت هذه المشغوليات أن تستولي على كل الوقت وكل الإهتمام، وتشغل الفكر والعواطف بحيث لا تبقى مجالاً للإنشغال بالله في صلاة أو في تأمُّل، أو في قراءة كلمة الله، أو حضور الإجتماعات الروحية. وهكذا تبعدنا المشغوليات عن الوسائط الروحية التى تعمق محبة الله في قلوبنا. نصيحتى لك أن تمسك بميزان دقيق، وتجعل لكل مشغولياتك حداً لا تتعداه. فلا تضغى كفتها على حياتك الروحية. لأنه: " ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! ". اهتم إذن بمحبة الله وبالوسائط التى تؤدى إليها. ولتكن لها المكانة الأولى في قلبك. وحينئذ يكون لك فرح كبير لأنك وجدت الطريق الذى يوصلك إلى الله وإلى محبته. وبذلك تصل إلى محبة الفضيلة والقداسة. وكما قال بعض الآباء: " إن القداسة هى استبدال شهوة بشهوة. إذ يترك الإنسان شهوة العالم والمادة والجسد، لكي يتمتع بشهوة الوجود في حضرة الله والتَّمتُّع بعشرته فيشتهي كل ما يتعلق بالحب الإلهي، وكل ما يوصله إليه، ويجد في ذلك لذَّة وفرحاً لا تُقارن به كل ملاذ الدنيا ".
تعليقات
إرسال تعليق