ونظراً لأن الحب بين الآب والابن هو حب مقترن بحرية كل أقنوم، فإن حرية الخليقة العاقلة هى نابعة من حرية الأقانيم الإلهية (لأن الكائن العاقل مخلوق على صورة الله فى الحرية). بمعنى أن الله قد أعطى للخليقة العاقلة حرية الفكر والإرادة، وذلك لأن هذا هو فى واقع العلاقة بين أقانيم الثالوث.
الابن يبادل الآب المحبة فى حرية كاملة، لأن الحب إذا فقد الحرية فقد جوهره ومعناه. فإذا كان "الله محبة"، فالحب فى الله يمارس بحرية تامة منذ الأزل بين الأقانيم الثلاثة. ولكن وحدانية الجوهر الإلهى وكمال الحب المطلق تعنى أن الأقانيم وإن كان لهم ثلاث إرادات من حيث العدد، إلا أن لهم إرادة واحدة من حيث النوع.
هذه الحرية الأقنومية لشخص الابن الوحيد التى شرحنا عنها؛ لم يفقدها حينما تجسد وصار إنساناً. فكما إنه تجسد بحريته واختياره، هكذا صام بحريته واختياره. وهو بحسب الطبيعة الإنسانية كان يشعر بالجوع بالجسد. هو أخلى نفسه باعتباره الابن الوحيد الجنس الذى قَبِلَ أن يتجسد، وتألم بحرية اختيارية، إذ قال "أنا أضع نفسى عن الخراف" (يو 10: 15). وعن مفارقة نفسه العاقلة لجسده عند موته على الصليب، وعن عودتها إلى جسده عند قيامته من الأموات بسلطانه الإلهى قال: "لهذا يحبنى الآب لأنى أضع نفسى لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى، بل أضعها أنا من ذاتى. لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً" (يو10: 17-18). وقال معلمنا بولس الرسول عن طاعة الابن المتجسد لأبيه السماوى: "مع كونه ابناً تعلّم الطاعة مما تألّم به" (عب5: 8). أى أنه لا يمكن أن يتألم من حيث اللاهوت، أما من جهة الجسد فهو يتألم. كما قال القديس أثناسيوس الرسولى: "يا للعجب فإن كلمة الله (بالتجسد) قد صار غير متألّم ومتألّم فى آنٍ واحد." [1]
بهذا نفهم معنى طاعة الابن المتجسد لأبيه السماوى. فهو من جهة بنوته الأزلية للآب لا توجد علاقة طاعة لأن الابن والآب متساويين فى المجد والكرامة وكل ما يفعله الآب يفعله الابن كذلك. ولكن من جهة تجسده قد مارس الطاعة من خلال احتماله الآلام. فمع كونه ابناً من حيث لاهوته، قد مارس الطاعة من حيث ناسوته. وكل ذلك بشخصه الواحد الوحيد الذى وحّد بين لاهوته وناسوته فى طبيعة واحدة تجمع خصائص ومقومات الطبيعتين. كما نقول فى القداس الغريغورى: {باركت طبيعتى فيك. أكملت ناموسك عنى}. أى أن الابن المتجسد قد طوّع طبيعتنا البشرية للآب السماوى فى شخصه بحرية تامة.
وبنفس الحرية التى تجسد بمقتضاها حباً فى خلاصنا، هكذا بنفس الحرية أطاع الآب وشرب كأس الآلام عوضاً عنّا: "لأنه بإرادته ومسرة أبيه والروح القدس أتى وخلّصنا" (ثيئوطوكية الثلاثاء). وهنا تظهر فكرة الحرية فى اتخاذ القرار من حيث إنسانية السيد المسيح: إنه إنسانياً قد أطاع الآب السماوى، لأن شخصه الحر قد طوع الإنسانية التى اتخذها لمشيئة أبيه السماوى، التى هى نفسها مشيئته هو والروح القدس.
هذا لا يعنى أن السيد المسيح كانت له إرادتين كأنه شخصين!! ولكنه قد طوّع الإرادة الطبيعية natural will التى فى طبيعته الإنسانية للإرادة الطبيعية natural will التى فى طبيعته الإلهية، وقد وحّدهما فى طبيعته الواحدة المتجسدة بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا انفصال ولا تقسيم. أما إرادته الشخصية personal will فكانت إرادة واحدة وحيدة لشخصه الواحد الوحيد.
هناك فرق بين الإرادة الطبيعية والإرادة الشخصية، فالإرادة الطبيعية هى مثل الرغبة فى الأكل للجائع والرغبة فى الشرب للعطشان. وبهذا نفهم معنى الإرادة الطبيعية، أى نداء الطبيعة أو الرغبة desire. أما الإرادة الشخصية فهى اتخاذ قرار الأكل أو قرار الشرب decision. فمن كان جائعاً واستمر فى الصوم، يكون قد أخضع رغبته الطبيعية إلى إرادته الشخصية، أو أخضع الرغبة للقرار.
ولأن السيد المسيح كان شخصاً واحداً وحيداً (غير مركب من شخصين)، كانت له إرادة شخصية واحدة هى التى بمقتضاها تجسد متأنساً وصنع الفداء. أما إرادته الطبيعية الإلهية فقد اتحدت بإرادته الطبيعية البشرية (أى الرغبات الإلهية والرغبات البشرية) اتحاداً كاملاً مثل اتحاد الطبيعتين بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا انفصال ولا تقسيم. فإن اللاهوت لم يمنع العطش عن الناسوت، ولكن السيد المسيح صنع مشيئة الآب وصام الأربعين يوماً من أجلنا. واللاهوت لم يمنع الألم عن الناسوت، ولكن السيد المسيح صنع مشيئة الآب واحتمل الآلام من أجلنا، وأطاع الآب حتى الموت؛ موت الصليب.
وهنا ينبغى التمييز بين الرغبة واتخاذ القرار حينما نتكلم عن الإرادة. فالإرادة الطبيعية تعنى الرغبة، والإرادة الشخصية تعنى القرار. وهكذا يمكننا أن نفسر قول السيد المسيح فى ترجمة الأصل اليونانى "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (وأنا)" (انظر مت 26: 39). أى ليس كما أرغب أنا بحسب رغباتى الطبيعية الإنسانية، بل كما تريد أنت وأنا بحسب الرغبة الشخصية الإلهية وبحسب التدبير الإلهى. وهذا هو قرارنا فى إتمام الفداء أنا وأنت والروح القدس، وهى أيضاً قرارى الشخصى أن يتم الفداء على الصليب. لهذا قال معلمنا بولس الرسول عن إتمام السيد المسيح للفداء "من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهيناً بالخزى" (عب 12: 2). كيف يقول ذلك وهو الذى قال للآب "إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس" (مت 26: 39) هذا هو الفرق بين الرغبات الطبيعية وبين الإرادة الشخصية. بإرادته الشخصية قرر أن يصنع الفداء، أما فيما يخص الرغبة الطبيعية، فمن يرغب فى الإهانة وخيانة يهوذا وغيرها حتى أنه قال "نفسى حزينة جداً حتى الموت" (مت 26: 38).
تأتى البلبلة من التفسيرات الخاطئة للإنجيل. ليس كما أرغب أنا بل كما تريد أنت وأنا. بمعنى ليس كما أرغب بحسب إنسانيتى بل كما نريد معاً بحسب التدبير الثالوثى للخلاص. ليس معنى هذا أن للسيد المسيح إرادتين لأن المقصود هنا ليس الإرادة الشخصية لكن المقصود هو نداء الطبيعة فقط. كما قيل "جاع أخيراً" (مت 4: 2) هل حينما جاع أخيراً صيّر الحجارة خبزاً وأكل؟ لا، إذن نداء الطبيعة هو الرغبة فى الأكل لكنه استمر فى الصوم.
لذلك حينما نقول فى القداس الغريغورى "باركت طبيعتى فيك، أكملت ناموسك عنى" يكون المقصود هو أنه طوّع بشريتنا لمشيئة الآب السماوى. فإذا كان آدم قد عصى الله حتى الموت فإن المسيح قد أطاع الآب حتى الموت حسب الجسد ومحا العار. وهذا هو ملخص قضية الفداء. كان لابد أن يأتى آدم الثانى ليقدّم طاعة كاملة للآب السماوى.
مشكلة نسطور أنه قال كيف أن شخص إنسان ينوب عن البشرية، وله حرية الإرادة ويقدم طاعة للآب كإنسان ولا يكون قد اتخذ شخصاً إنسانياً، فيقول من الذى يطيع؟ وهذه هى مشكلته. والرد عليها هو أن الابن أعطى شخصه الحر لطبيعتنا البشرية التى اتخذها من العذراء فصار هناك كائن اسمه آدم الثانى يملك حرية الإرادة ويملك طبيعتنا ولكنه فى نفس الوقت هو بلا خطية. فحينما قدّم طاعة طبيعتنا من خلال شخصه، دخلت طبيعتنا فى حيِّز الرضى لله.
لكن هل كشخص كان حراً أم لا؟ كان حراً حتى حينما تجسد فهو لم يتجسد رغماً عنه، كما لم يفقد حريته بالتجسد. وبمقتضى مقومات الطبيعة البشرية مارس هذه الحرية بطريقة إيجابية. فقدَّم طاعة كاملة للآب ليس فقط فى أنه لم يخطئ، فهذا هو الجانب السلبى لأنه بلا خطية وهذا الأمر مفروغ منه، لكنه قَبِلَ أن يحمل خطايا غيره ويدفع ثمنها. فطاعة السيد المسيح ليست فى عدم الخطية لأن الكتاب يقول "مع كونه إبناً تعلّم الطاعة مما تألم به" (عب 5: 8). طاعته للآب كانت فى الجانب الإيجابى، لأنه فى الجانب السلبى هو القدوس، لذلك قال الملاك للسيدة العذراء "القدوس المولود منك" (لو1: 35). "كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (عب 7: 26). إذا كان ابن الله الكلمة نفسه هو الذى تجسد كيف يقول الأدفنتست أن إمكانية الخطأ كانت ممكنة بالنسبة له. ونسطور ذكر نفس هذه النقطة.
الابن حينما تجسد صار إنساناً مع أنه لم يتخذ شخص إنسانى لأن شخصه هو نفسه حمل الطبيعة البشرية. فشخصه مع الطبيعة البشرية التى حملها، هكذا صار إنساناً له كل مقومات الإنسانية من رغبات الطبيعة ومن حرية فى اتخاذ القرار.
[1] P. Schaff & H. Wace, Nicene & Post Nicene Fathers, series 2, Vol. IV, Eerdmans Pub, 1978, St. Athanasius, Letter to Epictetus, par 6, p. 572.
تعليقات
إرسال تعليق