لا نغفل فى سرد هذه الحقبة دور Eusebius Pamphili يوسابيوس القيصرى المؤرخ الشهير أسقف قيصرية (ولد 264م- توفى340م) الذى كان عضواً فى جماعة النصف أريوسيين، وواحد من المتحمسين لأوريجانوس. لقد كان غير دقيق فى تعبيراته اللاهوتية، حتى أنه يمكن بسهولة وضعه ضمن المتقدمين فى الهرطقة الأريوسية. وقد كتب نفس المفاهيم التى أوردناها عن تعليم أوريجانوس بشأن الروح القدس.
كان يوسابيوس يؤمن ويعلِّم بأن الروح القدس هو ثالث فى الكرامة والمجد وفى الدرجة أيضاً أى فى الجوهر. فكان يصف الروح القدس بأنه يستقبل نوره من الكلمة، كالقمر فى فلك اللاهوت وأنه يستمد كل كيانه وصفاته من الابن. وبذلك كان يحسبه أنه ليس إلهاً ولا حتى بمستوى الابن، أى ليس غير مخلوق، وكونه لا يستمد أصله من الآب كالابن فيتحتم أن يكون واحداً من الأشياء التى خلقت بواسطة الابن، وبالنص الحرفى يقول:
Oute qeoV oute uioV epi mh ek tou patroV omoiwV tw uiw kai auto thn genesin eilhfen en de ti twn dia tou uiou genomenwn[1]
ثم يعود يوسابيوس ويستدرك هذا الشطط، لعله يعيد للروح القدس شيئاً من هيبته الإنجيلية فيقول: وبالرغم من أنه مخلوق إلا أنه أعلى وأفضل جميع المخلوقات.. لكن أى كرامة لمخلوق!؟
كما يتبين من أقوال يوسابيوس هذا، أن انبثاق الروح القدس مرتبط فقط بإرساليته، أى كحدث زمنى. فمثلاً حينما قال السيد المسيح "متى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق" (يو 15: 26). اعتبر يوسابيوس أن الروح القدس انبثق لكى يرسله الابن، أى أنه انبثق فى الزمان وأرسل، وبهذا ألغى أزليته. وليت المدافعون عن أوريجانوس يدرسون كتابات يوسابيوس القيصرى المؤرخ وهو من أكبر المدافعين عن أوريجانوس ليكتشفوا خطأ دفاعهم.[2]
حاولت هنا أن أقدم عرض تاريخى عن الأحداث التى سبقت ظهور هرطقة مقدونيوس وأتباعه، والتى أدت إليها، والتداعيات التى أوصلتنا إلى مجمع القسطنطينية.
[1] Euseb. De Eccl. Theol. III. 6.
2- والمدافعون عن أوريجانوس يقولون أن هناك من دس فى مخطوطات أوريجانوس بعض أقوال لم يقلها هو. فإذا افترضنا أن هذا الكلام صحيح، ماذا نقول عن أقوال تلميذه الذى أرّخ تاريخ الكنيسة كله فى تلك الحقبة، وكتب تعليمه هو الشخصى وهو صورة طبق الأصل من تعليم أوريجانوس عن الروح القدس الذى أوردناه سابقاً. لذلك من يريد أن يدرس حقيقة العقيدة أو حقيقة التاريخ لا يأخذ جزء واحد أو زاوية واحدة من الأمور بل يجب عليه أن يخوض فى كل المجالات ليرى رؤية متسعة لكى يستطيع أن يكون فكرة حقيقية عن كيف سارت الأمور. لذلك نحذِّر من قراءة كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصرى.
وعلى سبيل المثال أيضاً كان جيروم من أقوى المدافعين عن أوريجانوس، فلما قابله القديس إبيفانيوس وشرح له تحوّل إلى أشد المهاجمين لأوريجانوس. فكون البعض كان يدافع عنه فى تاريخ الكنيسة فقد كان هذا نتيجة لجهلهم بحقيقة الأمور.
تعليقات
إرسال تعليق