أعلن القديس أثناسيوس منذ البداية رأيه فى محاولات الأريوسيين فى تشويه الإيمان بالروح القدس وذلك فى رسالته الأولى ضد الأريوسية (الفصل الثامن) فقال: "كيف يمكن أن يكون إيمانه بالروح القدس إيماناً صحيحاً، طالما يتكلم بتجديف على الابن"[1]منكراً مساواته للآب فى الجوهر (هومو أسيون تو باترى).
إن ما قاله القديس أثناسيوس هنا يعتبر وكأنه نبوة أو بعد نظر، لأن ما قاله حدث بالفعل. فبعدما أنهى مجمع نيقية الصراع الخاص بألوهية الابن، بدأ الصراع حول ألوهية الروح القدس، فبدأ القديس أثناسيوس يحارب أيضاً ضد إنكار ألوهية الروح القدس. وفى سنة 360 م أصدر القديس أثناسيوس أول شرح مستفيض عن شخص الروح القدس وانبثاقه من الآب.
واجه الآباء الأرثوذكس مشكلة عدم وجود تكملة لقانون الإيمان بعد عبارة "نعم نؤمن بالروح القدس". وقد كان الآباء فى نيقية يعتبرون أن قانون الإيمان النيقاوى قد ذكر الروح القدس فى إطار إلهى، أى ذكر "آب ضابط الكل... ورب واحد يسوع المسيح... والروح القدس". ويلاحظ وضع كلمة "نؤمن" قبل كل واحد من أسماء الأقانيم الثلاثة: "نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل.. ونؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد.. نعم نؤمن بالروح القدس.. ". فبالنسبة لأى مسيحى يسلك فى طريق الحق يشعر أن قانون الإيمان النيقاوى هو إعلان واضح عن إيمان الكنيسة بالثالوث القدوس.
لم يذكر فى قانون الإيمان أننا نؤمن بأى آخر سوى الثلاثة أقانيم، لكن لأن الصراع كان ساخناً بخصوص لاهوت الابن لذلك شرح قانون الإيمان النيقاوى بالتفصيل ما يخص لاهوت الابن، ثم أتى مجمع القسطنطينية ليضيف الجزء الخاص بالروح القدس.
وبعد عودة القديس أثناسيوس إلى الإسكندرية من منفاه عقد مجمعاً وأصدر منشوراً مجمعياً رسمياً سمى بطومس الأنطاكيين (لأنه أرسل إلى أنطاكية بنوع خاص) يحمل أول حكم بالإدانة تصدره الكنيسة ضد عدم الإيمان بلاهوت الروح القدس. وقد قبل الأسقف بولينوس فى أنطاكية الوثيقة بكل فرح ووقّع عليها بإمضائه. وقد أعلن مجمع الإسكندرية فى هذه الوثيقة بكل وضوح أن الروح القدس واحد فى الجوهر مع الآب والابن adiaireton thV ousiaj tou uiou kai PatroV (إذيرتون تيس أوسياس تو أيو كى باتروس). ولم يقل عبارة ( هومو أسيون توباترى) لأن عبارة "واحد فى الجوهر" تعتبر أخف، حيث أن الوضع كان ملتهباً بشدة نتيجة وجود أنصاف الأريوسيين فى منطقة أنطاكيا(مثل يوسابيوس النيقوميدى ويوسابيوس القيصرى اللذان تسببا فى نفى البابا أثناسيوس أربع مرات والخامسة لم تنفَّذ).
وقد انبرى فى هذه الحقبة مقدونيوس وماراثونيوس اللذان رفضا بشدة القول بلاهوت الروح القدس، وظلا يعلِّمان أن الروح القدس مخلوق وخادم الله، ولذلك دعيا هما وجماعتهما بمحاربى الروح القدس ( بنفما توماخوس) الذين حرمتهم الكنيسة آنئذ.
وقد حدث فى مدة الصراع أن أرسل مقدونيوس وأتباعه إلى البابا ليبريوس فى روما، بعثة من مجمعه الخارج على الإيمان المسيحى المسمى بمجمع لمباسكوس سنة 365م، ونجح مقدونيوس فى إقناع البابا ليبريوس وكل أساقفة إيطاليا واكتسبهم أنصاراً له فيما يخص تعاليمه المغشوشة عن الروح القدس مدعياً أنه يتمسك بقوانين مجمع نيقية المقدس.
ويذكر لنا المؤرخ الشهير هفلى Hefele أنه لم تهدأ روما من سنة 368 م إلى سنة 381م وهى تقيم المجامع الواحد تلو الآخر (369م، 374م، 380م)، وفى هذه المجامع استعادت روما أرثوذكسيتها وقررت:
1. أن الروح القدس غير مخلوق.
2. أنه فى كرامة واحدة وجوهر (أوسيا) واحد وقدرة واحدة مع الآب والابن.
3. أزلى عالم بكل شئ (كلى العلم)، موجود فى كل الوجود omnipresent، متميز بشخصه، معبود من الكل، منبثق من الآب فقط، واحد مع الآب والابن فى وحدة كاملة مطلقة.
وحرمت بالتالى أريوس ومقدونيوس وإفنوميوس[2] وكل من أنكر أزلية الروح القدس وإنبثاقه من الآب[3]. وأعلنت روما إيمانها بعد وفاة القديس أثناسيوس بخمس سنوات وعلى هدى مقررات مجامع الإسكندرية بالثالوث القدوس، لاهوت واحد قدرة واحدة وكرامة ومجد واحد، وسمى هذا طومس داماسوس[4] ولاقى قبولاً فى أنطاكية ووقع علية 146 أسقفاً اجتمعوا فى مدينة أنطاكية عام 378م بحسب تحقيقات العالم والمؤرخ هفلى.
وهذه هى الأحداث التى هيأت الجو أمام البابا تيموثاوس الأول وسائر الأساقفة الأرثوذكس أن يكملوا قانون الإيمان فى المجمع المسكونى الثانى المنعقد فى القسطنطينية 381م. وبذلك صار يدعى القانون: قانون الإيمان النيقاوى-القسطنطينىNicene-Constantinople والذى ورد فيه "نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب نسجد له ونمجده مع الآب والابن...".
وفى هذا المجمع تم تأكيد حرم أريوس ومقدونيوس إلى جوار سابيليوس وأبوليناريوس. وانتصرت الأرثوذكسية انتصارها المشهور بعد الصراع الطويل الذى عاشه القديس أثناسيوس الرسولى ما قبل مجمع نيقية وبعده وإلى حين أن رقد فى الرب عام 373م .
[1] N. & P. N. Fathers, series 2, Vol. IV, St Athanasius, Eerdmans Pub. Com., Grand Rapids, Michigan, reprinted 1978, Four Discourses Against Arians, Discourse 1, chapter III, par. 8, p. 310.
2- وهو أحد تلاميذ أريوس وهو الذى وجه له القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات مقالاته الخمس اللاهوتية.
3- ظلت روما تصارع ضد فكرة إنبثاق الروح القدس من الآب والابن حتى القرن الحادى عشر، حتى أن أحد باباوات روما فى القرن التاسع عمل لوحين من الفضة وعلقهما على باب كاتدرائية سانت بيتر بنص قانون الإيمان باليونانى واللاتينى بدون الإضافة (من الآب والابن). ثم بدأت هذه الهرطقة فى أسبانيا فى القرن السادس الميلادى حينما كانوا يحاربون ضد الأريوسية لإثبات أن الابن مساوى للآب. قالوا أن الابن مساوى للآب وضمن المساواه أنه يبثق الروح القدس، قد رفض باباوات روما هذا الكلام حتى القرن الثانى عشر. ثم فى عام 1054م حرمت روما القسطنطينية لأنها رفضت قبول الإضافة، وردخ باباوات روما أمام ضغوط أباطرة ألمانيا، وبهذا انتصرت هرطقة انبثاق الروح القدس من الآب والابن فى العالم الغربى!
4- داماسوس هو بابا روما فى هذه الفترة.
تعليقات
إرسال تعليق